lundi 14 mai 2012 | By: Al karawen

الإستقلالية في ميزان الفكر والسياسة



في تونس ما بعد الثورة، كثرت البضاعة المعروضة في سوق القيم النبيلة، من حرية وعدالة ومساواة وكرامة وغير ذلك، ولئن سرنا هذا أيما سرور، فإن طريقة فريق من الناس في عرضها والدفاع عنها تورث لدينا حيرة وتدعونا إلى التساؤل عن مدى صحة فهمهم لهذه القيم وهل هم حقا يخدمونها أم يسيؤون إليها، وإحدى هذه القيم التي يكثر اللغط حولها ويساء تفسيرها هي الإستقلالية وسنحاول تعريفها والدفاع عنها من أعدائها ومن يدعيها

مفهوم الإستقلالية

الإستقلالية الحقة ليست أن يتمايز الإنسان عن فولان أو علان أو يأخذ مسافة من فكر أو أيديولوجيا، بل هي استقلالية الفكر أي أن لا يتبنى الإنسان فكرة ويدافع عنها إلا إذا اقتنع بها واستحسنها، وأن لا تسلك الفكرة طريقا آخر إلى العقل غير الإقناع، كالإنبهار بالقائل مثلا، أو التسليم له كي يفكر مكاننا، فإن استقل الإنسان بفكره والتزم وسيلة الإقتناع لتبني الأفكار فلا ضير في أن يتماهى فكره مع فكر غيره من البشر، وإن كنا نستغرب أن يكون هذا التماهي مطلقا لا يترك مجالا للإختلاف والتمايز

الإستقلالية أم الظهور في مظهر المستقل

حسب التعريف الذي ارتأيناه مناسبا للإستقلالية، يصبح تبني الأفكار والدفاع عنها للظهور بمظهر المستقل متناقضا مع مفهوم الإستقلالية ما لم يكن الإنسان مقتنعا بفكرته، وكيف يكون مثل هذا الشخص مستقلا وهو يتحرك في عالم الإفكار متبعا صورة للمستقل ترسمها أعين الناس، فإن استحسنوا خطا فكريا ورأو فيه دليل استقلال تبناه وإن ذموا موقفا أو وجدوا فيه شبهة تبعية تجنبه ونفر منه

الإستقلالية والتحزب

رغم أن التعريف الذي قدمناه لا ينتهي بنا إلى تناقض بين الإنتماء إلى الحزب وكون الإنسان مستقلا في تفكيره، فإن كثيرا من الناس لا يرون إمكانية للجمع بينها، ويرون أن الإنسان لا "يرقى" إلى مرتبة المستقل إلا إذا نأى بنفسه عن الأحزاب، فيحلو للبعض تزكية أنفسهم بأن يقولوا "أنا مستقل لا أنتمي لأي حزب" وتستشف من كلامهم غرورا وإعجابا بالنفس وتحقيرا من شأن المتحزبين

أقول أن السياسة الشرعية ضرورة لا بد منها، فإن اقتنع الإنسان بفكرة الديمقراطية كإطار لممارسة السياسة الشرعية غدا العمل الحزبي فرض كفاية لا بد أن تقوم به طائفة من الناس، ويا حبذا لو كانوا من خيارهم وأفضلهم، وإن اقتنع الإنسان بفكره ورأى أنه الأسلم لبلده ودينه فما الضير في أن يدافع عنه ويقدمه كخيار يطبقه إن وقع الإختيار عليه؟ هو عمل في رأيي يستحسن ولا يذم أو يستنقص من قيمته

الإستقلالية المزعومة، شجاعة أم جبن؟

تعرف السياسة على كونها فن الممكن، وكثيرا ما  يجبر المرء على الإختيار بين قرارين أحلاهما مر ولا يتفق أي منهما مع قناعاته ولا يتماهى مع مبادئه، والأمثلة من التاريخ الإسلامي وسير الأولين كثيرة، فأن ينأى الإنسان عن الخوض في غمار السياسة كي يحافظ على نصاعة مبادئه هو كالنعامة التي تدفن رأسها خوفا من المواجهة إذ لا حاجة لنا بمبادئ تسود صحائفنا ما لم تنزل من عليائها وتخرج من عالم المثل لتحتك بالواقع وتحتكم إلى قواعده

وكمثال على ذلك، ما الذي منع شخصا مثل على العريض أن يترك العمل الحزبي مثلا، ويزكي نفسه فيتسمى مستقلا، يبتعد عن الركح ويصعد إلى أعلى المسرح، ينتقد هذا وذاك، يتغنى تارة بتاريخه النضالي، ويفتخر بكونه يقول دوما كلمة الحق ولو في الأصحاب والأحباب. أنا أرى في نزوله إلى الميدان وقبوله بمنصب أول وزير داخلية بعد الثورة شجاعة وجرأة، رغم علمه بتعقيدات المرحلة، وعلو سقف المطالب من محاسبة وإصلاح، وصعوبة التوفيق بين التسريع في إجراءاتها وبين استقرار الدولة ومؤسساتها.

كوني أرى في ذلك شجاعة أستحسنها لا يعني تزكية الشخص مسبقا، ولا ذلك يعفينا من واجب نقده وتصويبه إن أخطأ، ولكني أكبر عموما في أي شخص تضحيته من أجل مبادئه، وأعظم ما يضحي به الإنسان صورته عند الناس فتقمص صورة المستقل عن الأحزاب، هذا المستقل الذي ينتقد الجميع ولا يُنتقد، هو الحل الأسهل الذي يجيده أغلب الناس

إستقلالية أم تأصيل شرعي للبندير؟

لا شك أن أنصار حركة النهضة هم المتهم الأول بالتبعية لحزبهم وقياداتهم (ولا أنكر التهمة على قسم منهم والتعصب الحزبي آفة لم يسلم منها أي حزب في تونس)، كون النهضة أهم حزب في الترويكا الحاكمة، وإن كنا لا نستغرب الانتقادات من المعارضة اليسارية، والتي كان أنصارها يدافعون عن أحزابهم مثلهم مثل أنصار الحركة الإسلامية، فلما صعدت الأخيرة إلى سدة الحكم إذ اختارتها أغلبية نسبية من الشعب، تحول دفاعهم بقدرة قادر إلى مقاومة ونضال وتحول دفاع أنصار الحركة الإسلامية عن حزبهم إلى تبرير وتملق وغير ذلك من قبيح الوصف، وكأن لا مجال لموالاة في الديمقراطية تختلف عن مولاة الدكتاتورية وتتميز عنها

وأما أن يأتي الإنتقاد من أحزاب وتيارات على يمين حركة النهضة كحزب التحرير والسلفيين فهذا ما نستغربه ويدعونا إلى التساؤل، هل ينتقدون ما يرونه تبعية لشخص أو حزب لرفضهم للتبعية في حد ذاتها أم لكون ذلك الشخص أو الحزب ممن لا يستوفون الشروط اللازمة كي يستحل الإنسان اتباعهم ويغدو ذلك عملا مستحبا بل وأحيانا واجبا شرعيا !

مادة من دستور حزب التحرير : يتبنّى الخليفة أحكاماً شرعية معينة يسنها دستوراً وقوانين، وإذا تبنى حكماً شرعياً في ذلك، صار هذا الحكم وحده هو الحكم الشرعي الواجب العمل به، وأصبح حينئذ قانوناً نافذاً وجبت طاعته على كل فرد من الرعية ظاهراً وباطناً.

وكثير من السلفيين تراهم ينتقدون اتباع غيرهم لشيوخ لا يرضون هم عليهم، ويقولون أن منهجهم يرفض التمذهب ولا يتبع إلا القرآن والسنة وهو في حقيقة الأمر لا يكاد يخالف لشيخ الإسلام ابن تيمية قولا أو رأيا، وإن كان لهم الحق في اتباع من يرونه أقرب إلى الدين فلا يحق لهم النهي عن فعل الاتباع وإتيان مثله

الإستقلالية وأخلاق المسلم

كل مسلم مطالب بالإلتزام بآداب النصيحة ومن ذلك ألا يتهكم الإنسان على أخيه ولا يستهدفه في شخصه، ولا ينقده كي يعلو شأنه بين الناس، كأن ينتقد الإنسان غيره ممن يرى في تفكيره وخطابه تبعية ليظهر هو بمظهر المستقل وذلك من الرياء وهو واضح للعيان ينفر منه الإنسان ولا يستسيغه

الإستقلالية والقول السديد

الإستقلالية قيمة نبيلة مستقلة بذاتها، ولكنها لا تكون مكتملة الرونق والجمال إلا عندما توجد عند شخص له رجاحة في العقل ودقة في التفكير، فلا يرى الباطل حقا ولا الحق باطلا، ولا يمدح المذموم من الفعل ثم ينتقد حسنه
    

هي مجموعة نقاط تسيء إلى قيمة الإستقلالية وتعبر عن سوء فهم لها تناولناها بسرعة وناقشناها، ولا يسعنا بعد ذلك إلا أن نعيد التأكيد على أهمية هذه القيمة فلا حرية للفكر ولا إبداع دون استقلالية وجرأة في التفكير، ولا ارتكاز للديمقراطية على أرضية صلبة دون استقلالية الأنصار عن القيادات ينقدونهم إن هم أخطأوا حتى يفهم كل من السلطة أن لا صك على بياض يعطى من الشعب، وأن هذا الأخير بتوكيله الحكم إلى أشخاص معينين لم يتنازل عن سيادته بل أنابهم فيها، فهو المالك والمتصرف والحاكم والقاضي، فإن شاء بارك وإن شاء استبدل.