في هذه التدوينة لن أتطرق إلى شخص بورقيبة
فالشخص إن مات ولى فلا داعي لذكره، عمله بينه وبين خالقه، ولن أتطرق أيضا إلى
شخصيته وإن كانت الشخصية بخلاف الشخص تعيش بعد صاحبها فلا تتوارى عن عيون المتابعين
ولا تأبى نقدهم، و إنما سأكتفي بالحديث عن ظاهرة قديمة و محدثة في آن واحد، عجيبة
غريبة، هي البورقيبية كنظرية سياسية بكل ما تعنيه من رمزية ودلالات في تونس ما بعد
ثوره الكرامة و هي في رأيي مستهجنة إذا استحضرنا أسباب الثورة وأهدافها فحق لنا أن
نتساءل: ما محل إعراب هذه الظاهرة في هاته المرحلة بالذات؟
وأهداف الثورة في رأيي على سبيل الذكر لا
الحصر هي أساسا:
نبذ الديكتاتورية
وهنا لا يجادل اثنان في أن أول من أرسى
دعامات الدكتاتورية في بلادنا هو بورقيبة، ففي عهده كممت الأفواه ومورس التعذيب
وقمعت الحريات وطبق نظام الحزب الواحد وتمت تصفية كبار المعارضين (صالح بن يوسف
وغيره) وإعدام أو نفي آخرين وفي عهده أيضا نزل الجيش إلى الشوارع لقمع ثوار الخبز
مرتين. ثم أليس بن علي نفسه من خريجي المدرسة الأمنية البورقيبية؟ أيعقل بعد هذا
أن نرفض ديكتاتورية بن علي لنرتمي في أحضان ديكتاتورية سبقتها بتعلة أنها
ديكتاتورية "متنورة"؟ أليس هذا ضربا من ضروب متلازمة ستوكهولم (Syndrome de Stockholm)؟ أليس من الأسلم أن نرفض الدكتاتورية بكل أنواعها
وأشكالها ودرجاتها إن كنا ندعي الثورة عليها ونفقه حقا معنى كلمة ثورة؟
نبذ الديكتاتور
هنا أيضا أكاد أجزم بأن الثورة كانت في قسم كبير منها ثورة ضد شخص الرئيس السابق والذي نجح أيما نجاح في أن يختزل الدولة في شخصه فكان الرئيس القائد الفرد الزعيم الواحد، تعلق صوره في كل مكان وتطول قوائم مناشديه ويستفرد نشاطه الرئاسي بالحيز الأكبر من نشرة الأخبار وهو في هذا لا يغدو أن يكون سوى تلميذ نجيب لمن سبقه بل إن بورقيبة تقدم عليه بأشواط إن صح التعبير فنحت لنفسه من الحجر تماثيلا و اختزل الوطن في نفسه فكتب اسمه في نشيده (النشيد السابق) واستأثر بالنضال ضد الاستعمار لشخصه وفرض رأيه على كل من خالفه واستهزأ بمعارضيه وترأس مدى الحياة (أو هكذا أراد) ولم يكن من هوس جنون العظمة ببعيد
وقد يستدل البعض بنجاحات حققها بورقيبة في
بعض المجالات كالصحة والتعليم ولا ننكر ذلك ولكن منذ متى كانت إنجازات ديكتاتور
سببا لنتغاضى عن ديكتاتوريته؟ فمن شاء أن يمدح بعض صنيعه فليفعل ذلك في كتاب تاريخ
ولكن لا يعقل أن يستحضره سياسي بعيد ثورة كمثال يحتذى ومنهج يتبع
إعادة الهيبة للشعب
وصدق من قال إنها ثورة شعب يثأر لكرامته التي
فقدها منذ قرون وليس بضع سنين خلت، وبورقيبة قد يكون من الحكام الذين أرادوا خيرا
بشعبهم، على الأقل من وجهة نظره، ولكن الأكيد أنه لم يحترمه يوما، فهو المثقف
الخطيب المتنور المطلع على الحضارات الأخرى وشعبه جاهل منغلق لا يقدر على تسيير
شؤونه بنفسه فكان عليه أن يهتدي ب"روح الحبيب زعيم الوطن" (مقطع من
النشيد السابق). وفي الجمهورية البورقيبية كانت نظرة الدولة فوقية استعلائية فهي
لا تعبر عن إرادة الشعب (vision
bottom up)، بل وتعمل
على تغيير هذا الشعب (vision
top down) وهذا ليس
من الديمقراطية في شيء. ولعل معاناة الشعب التونسي تركزت خصوصا في محاولات النظام
النيل من هويته والإستهزاء بمقدساته كأن يشرب الرئيس كأس ماء في نهار رمضان أمام
عموم الناس وهنا أتساءل هل يكن الذين يتمثلون في بورقيبة قدوتهم نفس القدر من الاحترام لشعبهم؟
و للتذكير فقط فإن الثورة حدثت سنه 2011 أي
بعد أكثر من خمسين سنة من الاستقلال، فلو نسينا أو تناسينا كل ما سبق وذكرناه و
قلنا إن التجربة البورقيبية كانت بحق ناجحة فإن الرد بسيط وهو أن نجاحها آنذاك لا
يعني نجاحها اليوم فالظروف غير الظروف وما صلح يومها قد لا يصلح الآن. والتجربة
البورقيبية إما ناجحة وإما فاشلة (deux
espaces complémentaires) فإن كانت
فاشلة فلا داعي لذكرها وإن كانت ناجحة فإن نجاحها يعني أن الشعب التونسي على إثرها
غير الشعب التونسي في أولها (من ناحية الثقافة والوعي والتعليم) وإن أخذنا بعين الاعتبار
أن انتفاء الوعي عن الشعب التونسي كان المبرر لقيام الدولة البورقيبية (condition nécessaire)
فإن حضوره يلغي أي مبرر لاستحضارها اليوم أي أن نجاح التجربة البورقيبية في
وقتها يعني (implique)
عدم تكرارها وعدم الاستشهاد بها كنظرية للحكم صالحة في وقتنا هذا.
وفي الختام أقول أن التمسك بأشخاص معينين
ورفعهم إلى درجة القداسة السياسية لا يفيد البلاد ويعيق تطورها ويشدها إلى الوراء
لأنه ضرب من ضروب "الرجعية" وإن دافع عنه "تقدميون" والأمثلة في ذلك كثيرة كظاهرة الكمالية في تركيا، أو
الخمينية في إيران أو الناصرية في مصر وكلها ظواهر تتمحور حول أشخاص غير
ديمقراطيين وإن صلحوا فإنما لعصر ولى ومضى
4 commentaires:
مشروع طارق رمضان ثاني بالطبيعة كل في مجاله برافو كراوان ممتاز ...
شكرا يا إبنة العم ولكن لا أستحق مثل هذا الثناء ، أسعدني مرورك
مقال ممتاز أخي الطائر ... أعتقد أن البورقيبية كفكرة ديمقراطية قد جردت كغيرها من مكنونها الاجابي لإنحسارها بين فترتين الأولى استعمارية والثانية مافيوية فالأولى جعلتها متفردة في صنع القرار تسحق من يعترض طريقها ، ملتفة على سيادة الشعب الذي لم يتهيء بعد في نضرها للأخذ بزمام الأمور بل لا تتردد في ذكر فضلها عليه من حين إلى أخر ، أما الفترة الثانية فقد جاءت كنتيجة حتمية لاستمرار الفكرة بغياب المضمون حتى لا تنفصل عن شرعية بعيد الإستعمار ألا أنها إكتفت بأدوات البورقيبية وأمعنت في تطويرها وتخلت عن الأخذ بالأسباب والقناعات التي بنيت عليها الفكرة وأصبح كل همها أن تأتي على الأخضر واليابس في سبيل إرضاء بطون لا تشبع
شكرا على الإضافة المفيدة. أما راهو الإبداع هذا الكل لازمو أكثر من كومونتار لازمو تدوينة :)
مرحبا بك :)
Enregistrer un commentaire